الأربعاء، 11 أبريل 2012

ديوان - سيرة بيروت

سيرة بيروت

حلمي سالم


دار الفكر العربي للدراسات والنشر والتوزيع

الطبعة الأولى
القاهرة – 1986
جميع الحقوق محفوظة

دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع
القاهرة – باريس

القاهرة ش هشام لبيب – رقم 25/42
مدينة نصر – المنطقة الثامنة
حروف
وردةُ عشق حمراء
انفلتتْ،
تركض بالجمرة في رمل الصحراء
انفلتتْ،
      دارت،
               حطت،
                    فوق سطح الدلتا،
سكنت في حضن الفقراء
لمت من أشلائهمُ العظمَ تويجاً
نهلت من آهاتهمُ الأنّةَ نَسخاً
وانفلتت كالعشاق وكالشعراء
دارتْ
هدأت فوق أغاني الصيادين،
وفوق أيادي الحدادينَ
وفوق جبين البنّائينَ،
تُشّكلُ من لحمهمُ المطعون البدءَ الدافق
                  من نزف الأفئدة السمراء
دارت،
دارت،
واختارت:
رشقتْ جمرتها في صدر الطاعون الأسود ، في كبدِ الخفراء
فتخصّبَ بالعُشب الحيّ هجيرُ الصحراء.
مورقةً عادت تتدفأ في حضن الفقراء.
وردةُ نار حمراء
ألبسها العشاق حروفاً:

                 ميمُ،
                صادٌ،
                  راء.

بيروت – 6 أكتوبر 1981


يد ضئيلة: قوس
(حوار مع حجر فلسطيني)

قال لي حجرْ:
أنا الزمانُ الحقيقيُّ ، والتواريخُ الآخرْ
هشيم ، انحنى ، وانكسر.

قال لي حجرْ:
خذوا شريعة الطريق مني
يدٌ ضئيلةٌ: قوس
والمدى وتر
واصل بين اشتعالة الجذور والغصون والثمر
في عيوني
وبين انطفاءة الزنا
في عيون غاصبٍ سافرٍ سقرْ

قلت يا حجر:
أأنت نهر مخالف
أم ترى شرر؟
قال لي: يدٌ ضئيلةٌ قوس
والمدى وتر
أنا بداية الهطول في مسيرة المطرْ:
الراجمُ الرجيمُ
والغاضب الحليم
والشارد المقيم
وقاذفي : النخيل والأجنّة
البيوت والشجر
والمدى بين طلقةٍ وطلقةٍ : وترْ

قلت يا حجرْ
فاخترق إذن أرائك الملوك والمكممينَ
فتْ في عروش ذلك الدجى الطويل
كرة من الجمر
رقوصةْ
دفوفة لا تذرْ
هذه بوابة لحظة الزهر الجميل
وكل بوابة غيرها : حُفرْ
فأنت حكمة ابتدائنا الجليل
والبداياتُ الأخرْ
طلاءٌ أنيقُ المنحدرْ

قال لي حجرْ:
يد ضئيلة قوس
والمدى العربيّ لي:  وتر
قلت: أنت الزمان البديهي الذي التمت شظاياه
وزمانهم: كسر
قال لي: الحجرْ
فارقبوا إذن مجيئ
ارقبوا إذن مجيئ
سأسمي طلعتي
خطر
خطر
خطر
بيروت – 30 مارس 1982

وجوه تمنحني وجهي
(1)
الطفل الذي يداريه كهلُ
اسمه: الأهلُ
صامت كليم
فرحانُ بالأسى
وابتهاجه أليم
الهجير هدّ وجهه الحليم
ولم يواسِه الظلُ

قال لي:
لكَ البلاد والحقل الكريم
قلت: عندك الرصاص والفلُ
لأنك الحدود والأهلُ
الطفل الذي يداريه كهل حميم
هو الينبوع
والورد
والنهل
واسمه السريّ
خلُّ


(2)
وردة تشكلت على هيئة امرأة
تروي عطاشاها على الهجير
وهي ظامئة.

إبريقها وريقها ناضجان:
ذاك فياض بماء الينابيع سلسالةً
وهذا يفيض بالجنائن الدافئة.

وهي مكنوزة بالأليف والمفاجأة

وردة
هندست وحدها لونها ونتحها والنكهة الصائبة
هذه البريئة البارئة:

رئه.

(3)
ملوث أنت بالصفاء
فاغتسل برهة وعد
وغدا
ووباء.

لماذا كشفت ذاتي لذاتي؟
وفضحتني
أمام شخصيتي الثانية
المدّعاة؟

إذهب إذن عني
أيها الجزء الأثيم فيّ
يا أنا
في حالتي غير الكاذبة
يا فضيحتي التي عمرها ثلاثون عاما
من الشيزوفرانيا الأنيقة المرتبة.

ملوث أنت بالصفاء.
ونافذ
كنافذة.

(4)
التواطؤ الذي يجمع الفؤاد بالفؤاد
يفسر اشتعالنا الذي ينز تحت الرماد.

التواطؤ الودود
يمنح انحدارنا الجميل
هيئة الصعود.

تاريخك المستعاد
وتاريخي الذي فقدته
خلف خدعة البلاد
يصنعان شكلا
لبهجة الفساد

أنت يا مهرةً أفلتت على البراري
إكشفي للورى
عاري
وهيئي لي قبةً خفاقةً
بين صدرك المسجّى وبين ناري
يا مهرة أفلتت على البراري
هندسي لي دماري

التواطؤ المفضوح
مزّق الغلالة التي تقوم بين الخفاء والوضوح
فمتى
نبوح؟

(5)
على كبدي أمشي إليك
كي أدق بابك الخشبي
وأكتب:

بعثرت عند راحتيك عشبي وطحلبي
وقلت لك: اعبر البرزخ الذي فيّ
ولاقني عند ماء المساء
صنوا لجرحي ولوثتي تكون
صنوا لنزفك النيّ أسعى أن أكون
في كل أرض ثم عاشقون
في كل أرض ثم أنت

قل لي:
لماذا ذهبت ضد التواريخ الرسمية
وانحنيت على البحيرة في بهاء نرجسي خطر
تراقب جبينك الذي غضنّه العراك الوجودي
من أجل القرنفلة؟

تعالَ إلى جانبي هذه الليلة
لأحكي لك سلسلة فضائحي
التي أخفيها عن رفاقي في عملي البيروقراطي

قلبك رحبٌ
وأحزاني سقيمة كثيرة
ولكنني أمشي إليك على كبدي
لأحكي لك مجددا:
كيف دخلت السكين
قلب حلمي سالم

(6)
فرعٌ محملٌ بالثمار والفرح
قال لي:
فؤادك الصغير ، بالأسى انجرح
فداوهِ
واستعد له صبابة المرحْ
فرعٌ محملٌ
طرحْ

طرحه الحنان والندى
وحضنه أرانب ثلاثة زغيبة
وكائن مطابق للمدى
فرع من الحنان والندى
يقول لي: انتبه فثمّ حنظلٌ
في الكلمة الباسمة
أل التفت فعمرك الجميل ضاع
بين من يبيع
بين من يباع

فرعٌ من الحنان يحتدم
صخرة بماء ينبوعها
ترتطم:

هذه الشفرة اللينة
صعبةٌ وهينة
هذه الشفرة الناعمة
مطواعة وحاسمة
رصاصةٌ
وأوسمة
وفيضها الطفولي
سمه

(7)
زهرةُ حنّونٍ صغيرةٌ حمراء
شاكستك في طريق الأبيض المتوسط
فانحنيت.
زهرةُ حنّونٍ صغيرةٌ حمراء
تجردت من قميصها الداخلي
عند ساقيك النحيلتين
فارتجفت.

زهرةُ حنّونٍ صغيرةٌ حمراء
نشرت ملاءةً عليك باتساع طلقةٍ
تصب قاهرة المعز في بيروت
فمنحت زهرة الحنون لي
واشتعلت

هل تعطي لخيالي فرصة تفسير منحك الحنون إياي
بأن في قلبك وسادةً لي؟

ذاهبٌ في المجيء
مقبل في الذهاب؟
أأنت الحضور في الغياب؟
يا زهرة حنون
صغيرة
حمراء

(8)
نهران صنوان أنت:
فتى طريقنا تراك
أم تراك شيخنا الجليل؟
وليدنا الطري كنت
أم شهيدنا  القتيل؟

يا بهاء
يا غزالة لا يرى دماءها السفهاء

وحيد في شعاعك الوحيد
وكثير في خفوق شعبك الأصيل.
أيها الساخن الظليل
يا دلالة
ودليل.

بيروت 1981

مقطوعات الحصار
كتبت هذه المقطوعات في الفترة ما بين 4 يونيو إلى 12 أغسطس 1982

استعداد

المدينة التي تعد نفسها للحياة
حينما تعد نفسها للموت
وحيدة الندى,
وحيدة البحار والرحيق والصدى
                          فريدة الصوت

بوابتان
المدى وردة مشتعلة
والأرض فتنة جريحة
تطبخ البقول والجحيم
السماء طلقة محتملة
والعازف الحميم
يضرب القيثارة المكحلة:
                  بوابة لبيروت
                 وبوابة للدماء
                   هذه ترتب البيوت
                 وتلك تعلن الفداء
               النخل ذاهبٌ يموت
              والريح تخطف السماء
             وخطة العنكبوت
             كون من الشهداء
              بوابة لبيروت
                 وبوابة للدماء

ضاحية

وردة على الليلكي
تميل عند جذع نخلة صغيرة
على أريجها الحميم
                       تتكي

تشب فوق حائطٍ قديم
تحكي غرامها  إلى الندى
                       وتشتكي

وردة على الليلكي
يشكها الفتى بتنورة الفتاة والضفيرة
مسمياً جفونها: رصاصة على الظهيرة
هامسا في رموشها
                           ادبكي

الدبكة استحالت رقصة مثيرة
وكفا من الحنان ربتت علي
                             وجنة الليلكي

وها هناك ما تزال قبلة صغيرة
             على جذع نخلة صغيرة
تشب فوق حائطٍ مهدمٍ قديم
على وسادة من حلمها الرقيق
                  تتكي
فهي وردة على
                 الليلكي


حياة
المحاصرون
يوسعون رقعة الأرض
يفتحون كوة السماء
يصنعون من جلودهم رغيفا
ومن عروقهم سبيل ماء
ويعصرون
من حشائش الطريق
جدولا من الأرز والطحين والكساء
وفي قتامة الظلام يبصرون
                      يبصرون
بعين فوهات هذه البنادق التي
تشكلت في الدماء.

المحاصرون
بالضلوع والعيون ينصرون.

بديل
لو شح الخبز سنأكل عشب حدائقنا
ونقاتل
لو شح الماء سنشرب عرق سواعدنا
ونواصل
لو قل الحبر سنكتب برصاص بنادقنا
أنقى كلمات قصائدنا
نضرب
 ونغازل
لو قل المازوت سنجري عجلات مطابعنا
بأصابعنا
بأيادينا
بكواهلنا
لنوزع صحف الوطن الناهض بشوارعنا
وخنادقنا
 تنبض شجراً
ومشاعل
لو شح الضوء سنشعل شمع محبتنا
ونناضل
لو شح الشمع سنوقد نور الأعماق
ونكمل درب الأشواق
للوطن الطالع من وجع الأحداق
نحن الثوار ونحن العشاق.
ونقاتل.

نسيج

المدينة التي تعشق الحياة
تنسج النسيم بالرصاص
                         تغزل الصخور بالمياه
وفجرها
 يحوك في الدجى ضياه

اختصار

يا وردة الحصار
زيني عروة المدينة المشاكسة
ولخصي علي المدي
فضيحة البيارق المنكسة
فأنت للمدائن اختصار.



اسم
المدينة التي تعادل الوجود
تصنع السنبلات مرة,
 ومرة تصنع الرعود
واسمها في الحالتين:
 صمود.

حزام

الليلكي, والبرج, والرملة البيضاء
شوارع مليئة بالخضار الحربي, والفاكهة العسكرية:

             برتقالات مشحونة حمراء
            بطيخ يتطاير فوق سطوح البنايات الواقفة،
            كرز مستدير يدخل أجساد النساء
           وأجساد القاعدين إلى موائد الإفطار الرمضاني،
           أرتال من الشمام تخترق الجدران
           و فاصولياء
           تملأ الخنادق والخواصر والمواسير الطويلة
          فتنطلق في الصدور المداهمة.

الليلكي, والبرج, والرملة البيضاء
شوارع مليئة بالكاكي والليلك المبتهج
الليلكي, والبرج, والرملة البيضاء
مهرجان البرتقال الطائر في الهواء.
وفي هواء القلب
 تنتصب السارية الوحيدة
عنقودا ملتهبا يلف حزام الجمال
في خاصرة الضاحية الصاعدة.

شوارع مليئة
 بالخضار الحربي, والفاكهة العسكرية
والحصار
 يغدو
 محاصراً.

الوردة

المدى جحيم مضئ
والليل حزمة حمراء من سواعد قادرة
ومهجة في الدجى صابرة
تقول: ها هو الزمان الردئ
فمن يعيد صنع هذه الوردة الداثرة
سوى دمائنا الفائرة
            ولحمنا الجرئ.

شطران

قلب المدينة الدفوق نبضتان:
                         نبضة رعاشة جبانة
                        ونبضة
                         تعيد للتاريخ خفقة الشعوب في الزمان.
تلك رمزها: مهانة
وهذه اسمها: المتاريس والصدور والبيوت
وشكلها: بيروت.

قرنفلة مختلفة

قرنفل من الحديد والغصون
معلق على ناهد المدينة المحاربة
يأخذ البحر لونها وشعرها
ويمنح انفجارها
قميصه ومنكبه.

قرنفل من الحديد والغصون
يصوغ هيئة الشوارع المحببة
بهية تصير في ثياب موجها الحميم
وفي نعومة تنز من صخورها المدببة
تفر من سكونها العقيم
إلى حشا الأبيض المتوسط
الذي تآخى بذبدة الرصاص والجحيم.

قرنفل من الحديد والغصون
صار في رملة بيضاء مركبة
يغزها عاشقون
صوب خط من الفخاخ يشبه الشجون
ويصنعون من توهج العيون
 أو من تراقص المسبغة
رغيفا من الجفون والسماء
وفاكهة من بلاد معذبة
يأخذ البحر لونها وشعرها
ويمنح انفجارها
قميصه ومنكبه
ويطلق اسمها على النخيل
واسمها: الحدائق المذهبه.

الحدائق امتلت خضروات
 وفاتحين
واشتعالات
 و أجوبة
والسؤال كان: من لقرطبة؟


وجود
قاتل
بالصدر العاري،
بالجرح النازف،
بالحزن المتكبر في الحدقات،

بجوع الفقراء.

قاتل
 بالحدادين، والبنائين، وبالشعراء.

قاتل
بالزند المعصوب
وبالطفل المحبوب،
بشجر الفيء، وبالصحراء.
قاتل
 بمواسير البارود،
بسيارات الإسعاف البيضاء
بحجارة أسفلت الطرقات،
وغرف النوم، ورفرف عربات الشحن،
بعمال التنظيف،
وبالأجراء
بحديد سياج البيت الغالي،
بمواسير الماء.

قاتل
بمساطر هندسة الطلاب،
بصحن الجبن الناشف،
وبقايا الخبز السمراء.
قاتل
بالإخوة،
بأسرة نوم الأولاد،
وبالأهل المهمومين،
وبالخلان الخلصاء

قاتل
بالتاريخ، بجغرافية نبض الأجداد،
ورئة الآباء
كي يحيا في فجر قتالك كل الأبناء
ويقوم من النوم الشهداء.
قاتل.

بوابة برج البراجنة

الطريق
مشبع بانتصابة الأصابع المرهفة
وعطر عاصفة
يفوح في ثياب صبية وعاشقين
ويمنح الحريق
نكهة البرتقالة المجازفة.

الطريق
مهندس بنبضة الرمل وانفجارة الحنين
وموغل في الأخاديد بارتعاشة المكاشفة:

الخندق العميق
ينزف ماءا حميما, وتبغا, وأرغفة
وفوق راحتيه وردة رقيقة,
 وغصن رفيق.

تنكة عنيدة تحيط بالمنازل المحررة
تمترست على حديقة من الرصاص والكمين.

تنكة مثابرة
تخفي بكمها الحنون حزمة من الأنين
وحزمة من حقول
 تفتحت بالبرتقالة المجازفة
وبالهدب الرقيق

فالطريق
مشبع بانتصابة الأصابع المرهفة
وعطر عاصفة
يفوح في ثياب عاشق عشيق
سماؤه: الحريق
وأرضه: الثورة الجارفة.

صباح ومساء
المدينة التي تعد نفسها للعرس
تهيأت بالنار للنار
والزنود والغصون
والفأس
تلتقي صباحها البليل
بالجمر
والهوى الجميل
وفي ضلوع بحرها الموّار تمسي.
المدينة التي تعد نفسها للعُرسِ
مرفوعة الرأسِ
لأنها جذري وامتدادي
وغرسي.

سميحة تعاتب النسيم

لماذا أيها السمر لاند؟
هل كنت تدري حينما خصصتني
بهواء الأبيض المتوسط
وبرقصة عيد الميلاد الحنون
أنك انت الذي سوف تطعنني؟
لماذا أيها السمر لاند؟
          *    *
قبل مقلتي في طيبة , وراح
مال عند شعري وغنى:
                يا بياع العنب والعنبية
                خطفوني الغجر من تحت
                خيمة مجدلية.
وقال: سوف أحرم الزوارق الخائنة
من تلويث صالة الرقص والغناء
في السمر لاند
و أعود.
خذي قرنفلة نظيفه
تعهديها لرقصة عيد الميلاد
المقبله.
في الليلة المثقلة
باح لي شاطئ المتوسط
بسره الحزين:
                  الفارع الجميل
                 حرم الزوارق الخائنه
                 من تلويث صالة الرقص والغناء
                ولكنه لن يعود.
فلماذا أيها السمر لاند؟
       *    *
قال لي رفاقه الأحباء:
                       راح الجميل
                      لكن الوطن الجميل
                     عاد.
قال لي رفاقه الأحباء:
                        ذهب
                       لتحضر البلاد.
       *      *
قلت لطفلته الصغيرة:
                     راح
                    ولكن الوطن عاد,
قلت لطفلته الصغيرة:
                   ذهب
                   لتحضر البلاد.
لكنني,
في ليليَ الطويل
وفي دمعتي الحزينه
أقول لنفسي:
                   لماذا
                  لماذا أيها السمر لاند؟



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سميحة أخت قائد أحد المواقع المقاتلة على شاطئ الرملة البيضاء وقد استشهد وهو يقود ببطولة المقاومة الباسلة ضد إنزال بحري إسرائيلي على منطقة ملهى السمر لاند بالرملة البيضاء جنوب بيروت.
                           

نعم مرهقة فنامت

حينما أتت لها القذيفه
كانت تخب في وشاح من الهنيهة
                                 العنيفة
صوتها كان مخلوطا بصوتها
في آلة التسجيل الكبيرة
التي تحملها تحت نهديها وتمشي
في زواريب برج البراجنة
وسواتر الفنادق.
الصوت يدخل المقاتلين:
                         يعطيكم العافية
                        اسمحوا لي أن أخطفكم من البنادق
                        دقائق
الصوت كان يعلو مع المغني الجميل
الذي حشى جيتاره في مواسير البواريد
وكان يعلو مع الشاعر الجميل
الذي كتب سوناتا غزلية
لزغرودة الكاتيوشا الضاحكه.
الصوت كان ينخرط:
                          طل سلاحي
                         من جراحي
وحينما أتت لها القذيفه
كانت تخب في وشاح من الهنيهة العنيفة:
عدلت هندامها البسيط
لتبدو قوية وباسمة أمام المقاتلين.
فتحت إبرة الناجرا الكبيرة
التي تحملها تحت نهديها الصغيرين المهملين
وجهزت سؤالها الجديد للمقاتلين:
                          كم جرحا نازفا
                          يساوي منازل بيروت؟
وحينما أتت لها القذيفة
كان السؤال يلقى إجابته الأليفه:
                         هذه الجنية النظيفة
                         تختار موتها الخصوصي الرقيق
وكانت دماؤها التي تسيل
على شريط الناجرا الكبيرة
تجعل الصوت مشروخا,
                  وساطعا,
                  ووحيدا:
        "يعطيكم العافية
          نلتقي مع مقاتل آخر
                       في
                         الأوزاعي"

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نِعَم فارس, مناضلة لبنانية, بذلت طوال الحرب وحصار بيروت جهدا يفوق الطاقة البشرية, من خلال عملها في إذاعة الثورة الفلسطينية, و لقاءاتها المتواصلة مع المقاتلين في الجبهات المختلفة حول بيروت, حتى طالتها قذيفة غادرة وهي في طريقها إلى أحد المواقع القتالية المتقدمة.


علي فودة هادئا
كيف يتلون الآن شعرك الأبيض
بدمائك التي كنت تخزن احمرارها الساخن
للفتاة التي طاردتها طويلا
في شارع البغدادي.؟

هال مال الكاسكيت الداكن
على جبينك العريض؟
هل انتهى تشهيرك الكوميدي بالبيروقراطيين
الذين يصنعون معك هذه الليلة
بلادا ووردة للفؤاد
على ضواحي بيروت؟

كم عدداً وزّعت من رصيفك المناوىء؟
الأسبوع كان قاسياً
ولكنك استطعت تحصيل مطبعة مختلفة
تمدك يومياً بأصابع جديدة
تصفع بها الخائنين والبلداء.

ما الذي حول جريدتك العدمية
من نهش أفئدة الشعراء الغامضين
إلى صرخة الوطن الجميل
وفضح الأمراء المتواطئين؟

هل تدرك الآن معنى ما فعلت:
لقد أحرجت أعداءك الصغار
ببساطةٍ
تصل حد الخدعة المصنوعة.

لقد عشت مرتين:
مرة في هجاء القبح والإرهاب
ومرة
حينما اخترت أن تموت
بطريقة لم يتوصل لها الشعراءُ
المجدّدون لغوياً.

لماذا هزمتنا بهذا الشكل الفاضح؟
أأنت هكذا دائماً فظ
وجارحٌ
وقارحٌ إلى درجة المجد؟

"الرصيف" على الرصيف،
فاجمعوها،
ووزعوها،
على دمه الطافح في رأس بيروت
وعلى كتّاب العصر التكنيكيين
أولئك الذين حسدوه
مرتين.

البرزخ/ صيف 82

إلى نخلة في الفؤاد تسير الضحايا
وقلبي طريقٌ من النائحات على وردةٍ
            كفّنتها الحنايا:
قبورٌ هي الخطواتُ على سكة القادمين
     من المرفأ البحري لشرفة ناري
           أم الأغنيات سبايا؟

تجيءُ الصبيةُ خطفاً من الهتك والسفك والمقصلة:
تلملم من بُقيا العشيق البقايا:
رباط حذاء،
وخصلة شعر معفرة بالسحاب،
سطور لمطلع أقصوصةٍ،
نصف ضلع تطاير،
مفتتح للغرام،
بداية حلم على الهدب،
سبابةٌ،
بعض إغفاءة،
أنملة.

تقول الوردة العليلة وهي تلطخ بالأفق أوراقها:
تخون المدائن عشاقها
وتبيح القناديل للموجة الراكدة
فهل يغزل الكون موجاً
تناسج من بُردةٍ هامدة؟

تجيءُ الصبية خطفا من الهتك والسفك والمقصلة
تراقب عين الصبي الجميل إذا فتشت في الحنايا
عن الأغنيات اللواتي تلائم طفلا بقبو،
وعن ضحكة هازلة.

تساءلتُ في البردة القاتلة:
أإن السحابةَ جاءت لخطفي؟
أإن فؤادي مقدمة لاحتراق الخلايا
على مفرق الدرب صوب الجبال التي
هندست في الوداعة حتفي؟
وهل يرشد الظل خوفي
إلى قبراتٍ تسمت بأسماء كنت سميا
لِطيف الصبابة فيها؟
وهل للمدينة أن تصطلي عاشقيها؟

تجيء الصبية خطفا من الهتك والسفك والمقصلة
تفاجيء وقتَ المحارب بالبرتقالةِ،
والنهدِ،
والسنبلة
تقول: ادخر لي بقايا من الهدم،
وانثر ركام نوافذك المستهامة
فوق عيوني التي شاهدتك توزع
جسمك بين الصفوف وبين السرايا:
وجسمك قربة ماء نقي مرجرجة
في دمايا.
فهل للمدينة أن تصطلي العاشقين،
أجبني:
سؤالي تمدد في رئتيّ،
انثني نحو حلقوم عمري،
وراح يبخر حنجرتي بالوجودِ
المفتت في المائدة
ونخلي تخثّر بالأنهر الفاسدة.
يقولُ المجيبُ: المدى أوردة
وكل وريد فضاء تلوث بالشهداء،
وكل شهيد قبابٌ محضّرة بالبهاء،
وقبة قلبكَ قفر تلظى بجمرته الخامدة.

فافتح حزني سبيلا.
تجي الصبيةُ من رعبها البحري،
تساءلني:
ما الذي يجعل الأرض مبقورةً ، والسما مائلة؟
وتمضي إلى زينة العاشقات:
ترطّب جبهتها بالندى،
وتكحّل مقلتها بالمدى،
وتفتّنٌ منبت تفاحتيها موضحةً
رمز بعض الخفايا
لتمشي إلى الملعب البلدي تناجي الزوايا
فافتح حزني سبيلا
أجرب بلادي قتيلا:

رصاص يفتّق خيطَ السماء المطرز في بهجة الدامعين،
وأشلاء تنداح نحو المنارة موجاً فموجاً،
وقبرة تستغيث بجسمي
صرخت: اخرجي فالبلاد مرتبة لانتشال القوارب
من لجّة الخارطة
صرخت: اخرجي فالقميص المرفرف فوق المصابيح
أهزوجة ساقطة:
وكنتُ أسائل قرب الصواعق نفسي:
لتلك الشظايا رحيقُ البقول،
فما يجعل الرغبة العاطفية تحت الخرائب
أيقونةً مُشعلة؟
هل الموتُ،
أم شهوة الدرء بالبدن المتلبس بالقنبلة؟

وكان الفتى المتأرجح في البرق،
يمرق بين الشظايا

يلملم عظم المدائن،
ثم يصففها بالنوافذ والأسطح الهابطة.
على البحر يخلع سترته،
ويسدُّ المدى بين منزله والبوارج،
ثم يميل على طفلةٍ ويغني لها:

للورد أغنيةٌ
كنا نغنيها
عن تربةٍ رُويتْ
كنا سواقيها
عن روضة سمقت
دمنا دواليها
طرحت لنا خيراً
ذقنا الهنا فيها
تبكي ، وعودتُنا
أحلى أمانيها
للوردة أغنية
تبقى نغنيها

تقول الورود العليلة في اللحظة الفاصلة:
لهذي المدائن أن تجتلي نفسها في المرايا
لتلمح أحدوثة العاشقين مسطرةً
على صخرة بين بدء الطريق وفوّهة المستحيلِ
لهذي المدائن حقبٌ وجبل
وللخفقة المستفزة بين جوانح هذا الرعيل
المعبأ في ملجأٍ للمنايا
خروجٌ إلى البحر ،
أو رعشة تستطير جحيما بجمجمة الراقصين
على جثث الباكياتِ الصبايا

تجيء الصبية خطفا،
تساءلنيك ما الذي يجعل الأرض مبقورة،
والسما مائلة؟
وتمشي إلى الملعب البلدي تناجي الزوايا:
هنا كان بياع صحف الصباح يغازلني،
والفتى الصبّ كان هنالك يرقب إطلالتي
في مساءِ الحكايا
هنا كانت المرأة المستحمة تنظر صوبي
وراء إطار الزجاج للوحة جدرانيَ المهملة
هنا كان حلمي يوازي
رموز الدجى الهاطلة.
وتمضي إلى زينة العاشقات،
تجاه الكمائنِ،
تمنح للرابضين قرنفلةً من بكاء الأحبة
فوق سطوح المدائن،
تلويحةً للسفائنِ،
يُودِعُ فيها صغارُ الشوارع أنشودةَ الجلجَلة:

يا موجُ كن بردا
لترطّبَ الأهلا
يا موجُ كن وردا
لتعطرَ الأهلا
خلِّ الخُطى هَونا
خلّ السّرى مهلا
واحللْ بهم عَدْنا
وابسطْ لهم سهلا
يا بحر كن لينا
بالصحب والأحباب
أكبادُ وادينا
ركبوك يا عباب
فاحنُنْ بهم حَمْلا
فالقلبُ للغياب
وأجمع بهم شملا
متواصل الأسباب
أوطانهم أحلا
من جنة الأعناب

هي الآن مفلوتةٌ
كالمنون المزركش في جثة المرحلة
تمدد سُرتها في البواخر والشاحنات وتسأل:
ماذا سيفضي حصاري عن الزلزلة؟
وكان الفتى المتأرجح في البرق يمرق بين الشظايا
ويكسر أكذوبة المزولة!

القاهرة / أكتوبر 1983

المعشوقة والعربي
(إلى إيمان بيضون)

يلمسني وترٌ ، فأجاوبهُ
يسلمني لامرأةٍ تطلبُ حصَتها من عمري
فأُوَاخيها وتؤاخيني
وتحاكي  حالتها المخطوفة في تكويني

كنت أبادل منزلها بحنيني
وهي على المفترق  واقفةٌ
ترقب وضع معابرها بعد هدوء الشهب الهيجانة
وتراجع نبرة طفلتها البردانة:
هل جرحتها اللحظات الصعبة وهي تفوت
على الأجسام المقسومة جسمين؟
تتقصى عدد البطانيات على عدد البسمة ، تسأل:
    هل نامت نانا بعد سكوت  المعزوفة؟
    هل طـّير اولاد النبعة طياراتهم الورقية؟
    هل عاد الحقل إلى خدين؟

كانت تعتكف على أضلاعي
تقترح على بدني فتنتها.
وتقول للحمي: حين تشارف أحصنة العربيِ صبابتها,
    سأحل على بطنك شعري,
   كي ألتم على جبهتك فضاءا يسكن في الهد بين.

أتاحت للمنزل أن يمشي نحو الراية,
أن يذهب لبدايته في الأشياء الحية بين الرمشين.
وكان فتىٍ في خفقته يسأل جارته:
           ماذا يجعل عشب الوادي أسلحة,
           ومضات النبع لظى يتراقص فوق صدور
           المدرعين بأرز شهواني, أو فوق صدور
        المدرعين براية سيف الصحراء؟
تجيب: الأرض المكسوة بسمائين.

العربي يميل على جثته
كي يفصل فيها مصرعه عن طعنته
يذهب نحو ملابسه ليعين مسرى الوردة
بين تماسكها في القوس المشدود وبين تفتته
ويمر: على الساحة يلمس وترا,
       ويعيد تكسره لصبيته
وهي تراوده إذ يكتب في الرمل رسالته صوب الماء
       ويرسلها بجناح يمامته بين البيروتين.

- وماذا يجعل شرفات العشاق خنادق تتطاير منها
   أعضاء حبيبين انخطفا في أبهة مزيج الجسدين؟
- بلاد ببلادين.
- فأين توافينا الموجة؟
- في قوقعة واحدة, لا في قوقعتين.

العربي يساقي في السهل مشيئته
يتلمس حجرا بين الغيمة والغيمة يختصر مسيرته,
يأخذ معشوقته
قرب الخط الفاصل بين الوتر وخصم الوتر,
يعري معصمها في المخبأ,
    ويقارن رغوتها بالبحر,
يساوي بين القوات وبين أصابعها,
ويلاعبها في راحته بالرمز,
يزاوج عند كمائنه مادته في صورته
حتى يكتشف مجال ربابته
ومسار رصاصته, بين الأفقين.

طين, ولجين.
معشوقته تختبر الشاطئ:
هل يصلح كإطار لنشوب الوردة بين النهدين؟
وتختبر القارورة: هل يصلح هذا الغسق
          لأن يغدو نهرا بين الصحراوين؟

انقلبت شجرته ضد يديه
فكانت تخفي في أفرعها مقصلة الفاشي وسكين الدموي
وناب التجار الكامن في علم الماشين على كتفيه
انقلبت في ليل شجرته ضد يديه
استفتى معشوقته
فأشارت  بالقزح النائم في عينيه
انفرد على جبل,
      وتملى فرسته
كون أجوبة لسائل دمه المفضوح على رئتيه,
أضاء بمنديل الأزمنة جاحيه, و ألقى جملته:
     سيكون على قلبي
     أن يفتح غرفته للأحصنة السهرانة.
     سيكون على كفي إعادة مدلول الوردة للعشاق,
     إعادة كرسي الشرفة لحديث المشتاقة ةالمشتاق,
     إعادة ترتيب الوقت لنزهة فقراء القرية,
     وإعادة سفح الجبل إلى ماعزه الهربانة.
ألقى جملته:
    سيكون على مائي غسل الشجرة من تاريخ الشجرة,
    كي يعتدل الموج على شطين.
-       لماذا يرتحل الخفراء؟
-       لأن المعزوفة ستجئ.
-       وماذا بين حنيني والبارودة؟
-       وطن يرتجل ملامحه.
-       ماذا يصل الأغنية بحنجرة مغنيها؟
-       سهم.
-       كيف ينظف عشاق قمصانهم الصيفية؟
-       بمزيج بين القارب والموسيقى.
كان فتى يطلب من جارته
أن تمنحه مدنا تتلاءم مع حجم الكفين
لكي يمكنه أن يمسحها في بشرة محبوبته,
        ويطابق في الشفتين, الشفتين.
انجرف إلى الينبوع , يحاور معشوقته:
         حول أصول مزارعها,
         حول طعام العصفورة,
حول الفرح الآسيان وراء مدامعها.
تفلته المعشوقة في الظلمة حتى يستهدي في لجته
                                        بمواجعها,
أو يستلهم في وحدته فطرته.
يخفي في سترته
ويحط على طرف المتراس عبارته,
وإذا أطلق عند حدود المرسى ديكته,
         أيصرها بين النصفين:
كانت تستقطر خبرتها في مزج الفكرة بالغزلان,
      وفي خلق القبلة من ضدين.
-       لمن الدبكة؟
-       للعربي.
-       القبرة على طرف الجبل لمن؟
-       للعربي.
-       على أنمل من كان طريق يفتح مغلقه؟
-       أنملة العربي.
-       لأي فوانيس انخلعت أمكنة من حلكتها؟
-       لفوانيس العربي.
-       لأي سماء ناعمة تكشف سيدة في رابية سرتها؟
-       لسماء العربي.
-       لأي نساء القرية يخلع بحر خاتمه؟
-       لامرأة العربي.
-       لماذا يحشو العربي بيارقه بالتوت؟
-       لكي يطعم فقراء الله.
-       فكيف يعيش العربي؟
-       على الخطوة بين الجوع وبين القوت.
-       وكيف يموت؟
-       إذا انشق إلى شقين الملكوت.
-       فأين انفجرت تفاحته؟
-       في سكين تلمع في مديتها الأولى بيروت
                    وفي مديتها الأخرى بيروت.
-       فأين يجئ إليه التابوت؟
-       على منطقة طرفاها:
                    طين, ولجين.

الوردة ساهرة,
والأنثى ليس تنام على مقطوعتها الليلية,
تفضي بحقائقها للفلة والجندي,
تغادر مكمنها تحت رذاذ الثلج الأحمر,
تتحقق من أن الأشياء المحبوبة ما زالت
                في موضعها المحبوب:
                             الصخرة عند الحمام على الجسر,
                             الروشة وفتاة تأخذ خصر فتاها,
                             الكتاب على مقهى "مودكا",
                             و طلوع الجبل الصحو بأمسية الآحاد,
                             الميرامية تقطفها يسرا عند السعديات,
                            قلنسوة الدرزي على المختارة,
                            وشرائط فيروز على البسطات,
                            مواسير بنادق مشرعة وسط حقول الزهراني,
                            نظارات هدى حوا وهي تتم بحثا عن:
                            علم جمال الحرب العادلة,
                            صلاة الشيعة في جمعات الذنب ومئذنة الشياح,
                            الصبية يخفون سلاحا بمقابر صيدا,
                            فوضى البالونات بليلة عيد الميلاد,
                          كمين شيوعيين على المرفأ,
                        قصة حب عابرة في دمعة تانيا,
                        صور الشهداء على جدران الفاكهاني,
                        وبقايا عاصمة تتراءى
                        كالحلم الآتي بين ذهابين.
الأشياء المحبوبة مقبلة,
فيما بين الدانة ورسالتها,
       وهي تعيد مراجعة الأفئدة العطشانة
إذ ينقصها ماء من عين الله لتكمل سيلولتها
وتفيض على الطرقات المزروعة,
بين السكتة والسكتة تهمس لي:
              هذي وشوشة
              يسكبها الجني على أذنين.

-       فما شكل المعشوقة؟
-       وشم في زند العربي.
-       وما زمن المعشوقة؟
-       للمعشوقة وقت توصف فيه بمغزلها الرعوي,
وتبدأ خطوتها فيه على الرمل فؤادا بوجيبين.

     لم تك ضد الطائر حين انفلت وطار,
ولا حين احترق,
ولا حين انبعث رمادا ينبض بجناحين.
-       وكيف يجئ المحرومون؟
-       على الفاتحة.
-       فماذا كسر المعشوقة؟
-       طائرها.
-       حين انكشف جناحاه عن الرخ العرقي,
           يدف سواد الليل على جدولها,
أو يسترشد بنقيض القمح على سنبلها,
فانفلقت من زيتونة آخرها  لربابة أولها,
واتخذت للأفق رحابته المجهولة,
ألق للكون سلامته المجهولة,
           بالأرز وبالماء الحي.
-       فما وطن الأنثى؟
-       شباك مرفوع بيدين.

المقطوعة لا تختم سيرتها في اللوح,
وعزف العربي بدايات,
والعاشقة تؤسس سهرتها في أنحائي,
وأنا أتراءى بين الأنقاض,
                نوافذ
                تخرج
       تدريجيا
       تدريجيا
      تدريجيا
                من طللين.


                                   فبراير 1984 م.

قصائد قصيرة في وصف الرقم الصعب
(إلى سعاد الدجاني الفلسطينية الحزينة)

ما الذي هشم المساء

ما الذي هشم المساءَ
في هذا المساء؟
لم يكن سؤالها مساويا
لقوس طلقة خاطفة،
ولم يكن مشابها للقتيل أو للبرء.
ما الذي هشم المساء
في انخلاع هذا المساء؟
كانوا يموتون في تماثل فجائي
وهي ترشق الورد في زفيرها
وتشبك المرءَ بالمرءِ
وبالأناملِ الأناملَ
فيمكثون برهة فوق جثة عارضة
ثم يهرعون بعدها ، إلى المثيلِ
ولم يكن سؤالها
مساويا لنفسه.

تزينت بكحل النهايات

واختارت اقتراح رمي فلةٍ على جمرةٍ
وراقبت حنينها المليء بالسكون
وعمرها الذي شابهت رحيله
بزهرة الحكايات.

ووقت أن تأرجحت في ثيابها الواسعة
كان كحل النهايات مرشوشا
بين رمشها والرؤى
فراقبت حنينها الذي يموت في صفحة الماءِ
هادئا.
وأغلقت كتابها القديم
على حنينها المليء بالخوذات.

تهيأت الخطوة

إدعها للرقص،
واشهد يديها على الآلة الحاسبة
نمْ لها في المسافة التي تفصل الآن
آخر البحر عن أول الكمين.

ها تهيّأت لخطوة،
وانبرت على مدخل البناية الشرقي،
للوداع.
فادعها للرقص،
وارحل عن الجزيرة التي تغرق الليلة
في قوارير سهرة الحرس.

استعصتِ الصورة الشعرية.
ويداها لا تزالان
فوق الجرسِ.

قرب حافة النهر

قربَ حافةِ النهر
كانت ترمق الثورةَ الأخيرة،
وهي تدخل الموجة الأخيرة.
قربَ حافةِ النهر
مالت لتغسل الجثمان ثم تفرده
على أصابع المزارعين
وفي أسرّة الهواء فوق راكبي هوادج الماء
ولم تكن
قربَ حافةِ النهر
كاشفةً
وجهها المقتول وهي تشبك الجثمان
في ورودِ من يرتبون موكب العرسِ
ويذهبون صوب حافة النّهر مُلهمين.
وفي الليل كانت القناطرُ الخيريةُ،
تقلت المياهَ من شقوقها،
نحو البيوت.

عندما يذبل الوقت

صارت تتابع انتعاشها كل ليلة
عندما يذبل الوقتُ.

أعطت لها اسمها
وحطت ثيابها في الحقيبة الصغيرة
لكي يكون حضنها واسعاً لطفلة
تراها صباح كل دمعةٍ
شبهتها بروحها التي تصبو،
وحلمها القديم،
وحينما صحت صباحَ ذلك العزف
لكي تواصل انتعاشها،
شاهدت ضلوعها مبذورةً
على المنائر البعيدة،
وطائرةً
على رؤوس السيدات الضغيرات
وفوق شاهد القتيل.
أنكرتها سماؤها الباقية
وضلوعها التي أعدّتْ لأجلها الحقيبة الصغيرة.

وكان حولها الموتُ
يتابع انتعاشها كل ليلة،
عندما يذبلُ الوقتُ.

تشبهين روحي

أنت والبحر
وأحلام نخلة وحيدة
تفرقت نرجساتنا على القبائل
وانثنى الباب خلف راحتين
كانتا تسدان روح الليل
عن بقية الغناء.
كانت النخلة
تعاين انحلال جسمك الوسيع في الرمل
على فراغ لحننا
وتسمع النعيَ في مآذن القرى،
قبل أن تذيعه الصحيفة اليومية
وقبل أن يحمله
نسيم الحقل للدست العمومي

كأنما كنت تشبهين هذا النعي
كأنما كنت تشبهين روحي

لم يعد سوانا على الجسر،
فاقذفي حجرا
بحجم هذه النهاية التي تلوح
بين موجةٍ وموجة
لكي تفرق النرجس القليل في القبائل الكثيرة.

خذي القوس ، خذيه:
ليس سيئا تماما
ألا يكون في هذه الخرابة البعيدةِ
غيرُ أنتِ والبحرِ
وأحلام نخلة وحيدة.

ما الذي يمكن فعله الآن؟

ما الذي يمكن فعله الآن؟
بعد انشطار تفاحة السهرة؟
فلنجرب
أن نملأ القوارير بالدمع
حتى إذا ما طفت وسالت
على سجادة الحجرة
رجعنا نصب الدمع
كرةً أخرى
وكرة
حتى إذا ما سال فوق ركبتينا
لعقناه ضاحكين

فلنجربْ
أن نلحم الفصيل في الفصيل
بما يسيح من شموع المائدة
حتى إذا ما ساح كرة أخرى
وكرةً ،
نعود ثانية لنلحمه
بالعلكة التي نلوكها بشدقين
مرةً،
ومرةً.

ما الذي يمكن الآن فعله
بعد انشطار تفاحة السهرة؟
سوى أن نشخص الثورة
في حفلنا التنكري،
مقنعين.

عاشق واحد وطفلة وحيدة

ليس للحزن في هذا المساء
إلا بداية واحدة
أغلقت جفونها على وهمها الوحيد
حين كنت أدنو من ارتعاشها
وحيدا.

قطعت مسافة الكون للكون
لكي تنام في عراء أهلها
وحين كان أهلها يفككون النبع
لكي يصير في الثرى
قرباً
قربا
كلن حزنها يشدها إلى عريشتي الوحيدة.

غطيت صدرها بسترتي
وعند رأسها الصغير
غنيت أغنيتي الحبيبة:
ليحفظ الحمام
إغفاءة الحمامة
ويحفظ الفؤاد
من سكة الندامة.

وحينما صحت من مسافة الكون للكون
كانت تداري قلبها عن عيونها ، وعيونها عن عيوني
وكانت القربُ
مثقوبةً
تنزّ في محابس الروح
عاشقاً واحداً
وطفلةً وحيدة.

نيقوسيا 1984

تجعل شريانها بلدا

"إلى س.د. الفلسطينية التي جعلت من روحها وطنا حينما عزّ الوطن"

تحاشت وردتي
وانسلّ إصبعها إلى الأفق المغيم
كنت أرمقها وراء الراقصين
تمد سماء عينيها إلى قوس يجاوزني
ويُطبقُ جمرهُ في راحتيّ
فأنتشي بالأسود المحفوف في نهدينْ
كان سؤالها فخا لطير الروح
"هل تأتي القصيدة بالأسى"
هربت حروف إجابتي خلف المقاعد
قلت: رمح الشعر عكس القلب
والحزن اختباءُ من فضيحة وردتي

هذي التي قطعت مسافة كونها
بثيابها الصيفية البيضاء
مرّتْ كالربابة في حقول القمح
ميّلت النخيل إلى أناملها
ودست ظلَّه بيديّ
داريت انخطافي في الكئوس
سألت في غيبوبتي
زهراتك الزرقاء في عينيك للغيّابِ؟
قامت عن أريكتها الصغيرة
نحو مدفأة الجدار وأخرجت رسما قديما:
كان ساعاتٍ مفتتّةٍ
تسيل على بلاط الروح
والعينان مثقلتان بالسفر
استدارت وهي تهمس لي وللساعات:
جرح الزهرة انفتح
استدلت بالأغاني الخافتات على المدينة
خلصت أنفاسها من رملها المنثور في القمصان
قالت:
"كنت محزوناً كأنك عاشقٌ"
وبكتْ.
لماذا لم أقبل دمعها المحبوس؟
خطوتنا على صمت الطريق تشابهت والليل
حلكة هذه الأشجار عرت وجهها المأخوذ
فانسابت على طرقاتها الجنيّةُ المدفونةُ
انحلت أغانيها القليلةُ.

كنت أمشي حذو مهجتها
ولكني اختبأت كهرةٍ عطشى وراء قصائد الشعراء
حتى لا أذيع جنون قلبي
هذه الخطوات تكشف آهة الرئتين
إصبعها الى الأفق المغيم ذاهبُ
لكن جمرتها على كفيّ
 "هل تمشي قليلاً"
لم أبح إلا بأن الليل حفاظُ السريرةِ
والطريق مجهزٌ للسائرين

"يداك باردتان"
وانكفأن تسر لألة الطبع الحقائق
لم تراقب جمرها بيديّ
رقصتنا الأخيرة طوحت بالوردة
انفرطت على أقداح مائدة العشاء
"الآن نخب الزهرة الزرقاء"

هذا الأسود المحفوف في نهدين
بعثرها أمامي ندهةً مكتومة
وسرى همسا من ضباب الحلق
سربت احتضاري
في الحديث عن الطرازات العتيقة للبيوت
وعن مضامين التصوف
"هل سكرت؟"
الناي مفلوت على أوراقها السرية
انتبهت على نغم يقول:
"لقاؤنا
كان افتتاحا للوداع"

ختمت كذبتي الأخيرة
سابحا في فخها المخفيّ
لم ألمح إلى شجر يرف وراء أضلاعي
وقلت: البدر مكتملٌ
وأمنية الغريب قريبة

أنهت تراجمها
وخشت حلمها المستوحش
المطر القليل يدب فوق فؤادها المبلول
تركض باتجاه المنزل الرحالِ
تدخل ذاتها وتقول:
"كنت أفرّ منّي"
ثم تسكن كاليمامة
وهي تصنع قهوةً
لو أنّي كوّرتها بيديّ
لو أخفيتها بالصدر مثل فراشة بردانةٍ
لو شلت دمعتها بعمري
هل أكون جرحت سُرّة سرها المكنون؟

هذا الدرب يفتح بغتةً صندوق ذاكرتي
ويدني من دمي أسطورةً جراحةً
ويغيب.
"هل تعبت خطاكَ ؟"
الراقصون يخبئونفضاءها عني
أفتش عن قلادتها النحيلةعن عيون نبضها عصفورتان كسيرتان
القلب قرب القلب
أشهد لحنها يهوي إلى قاعي
فتبعد نايها عن وردتي وتقول:
"أعوامي ترفرف
في شراع ليس لي"
وتواصل الطقسَ.

استراحت برهةً من حزنها
واستأنفت عزفاً بعيداً
بعد نجمتها عن النجمات
كنت أرمق مقلتيها
وهي ترشف كأسها المنقوص
تضحك ملء نهديها
كأن لم تضحك العمرَ
الخطى شرخت سكون القوس
بين سمائها وثرايَ
كان القلب قرب القلب
لكن الخراب الحلو بينهما يراقص نفسه
ويظلُّ في ألقٍ

وكنت كذوبا
اختبأت حروفي هرّةً عطشى وراء قصائد الشعراءِ.

طائرةٌ تقلّ الجسم
أسأل صاحبي السّاجي:

لماذا لم أقل لها
أنك تشبهين الشجرة
التي ترف في قلبي؟
لماذا لم آخذها
في كفيّ
وأجري إلى
البحرِ؟

نيقوسيا 10/12/1984

حديث سليمان

سيكون الموت ربيبي وربابي
هذا الرمل يخمن لي مغزى أوردتي
ويعين للقلب مجال الخفق
ويربط علاّت الدم بأسبابي

يتبدّى فوق الربوة جسدي المكتوم
أنا الجنديّ المكظوم
المتلظى بتواريخي المتماثلة:
التاريخ المهزوم يليه التاريخ المهزوم
المخطوف بندهة ندّاهٍ كمن لعمري ما بين السترة والرئتين

الناده يهمس لي
الغسق اقترحك للرقص الخالص في الزمن العكسي
ارقص حتى تكمل آيتك الناقصة
فأرقص رقصتي الخالصة
أغوص وحيدا في طينة أهلي
حتى استخرج منها اللؤلؤة الغائصةَ
فيهجس لي الرمل المتوجس
يقترب عليك الدهر المصريّ
وبعد رحقيقين ستعتنق السنبلة القانصةَ
الجسد المندوه يتمتم في:
اخلص ، واقنص ، وارقص ، غصْ
أرقص رقصتي الفاحصةَ
أنا الجندي الراقص بلباس الحرب
وسنواتي شاخصة في الكفين
وغامضة بشبابي.

سيكون الموت ربيبي وربابي
قال النداهُ: سليمان
أجبت: ألا للناده صحوي وغيابي
فتساءل: كيف توصّف حالتك الحربية؟
قلت: أنا المخدوع الظمانُ
فصاح: سليمان
فكيف تحدد موقعك الراهن بين الأجنادِ؟
أنا أول من سيكونون وآخر من كانوا
وثرى الأرض: الإيمانُ

اقترب قليلا صاح: سليمان
بماذا تعرف صوتك بين الأفئدة المجروحة؟
قلتُ: هو الصوتُ الهيمانُ
فسأل: وما الأغنية سليمانُ؟
فغنيت لنفسي:
"في الأفق عصافير معادية
في الأفق طيور سودٌ
في الأفق دمٌ ورعودٌ"
صاح: فكيف نذيع الوردةَ؟
قلت: الوردة ينشرها الكتمانُ.
سليمانُ:
فما سعة البارودة؟
يدخل منها الشعب الآتي بذهابي.

واسعة هذي الصحراء
وضيقةُ كوات الكون على زندي
تختلط الحلكة بفتاها
فيواعد ماسورته بالمنديل الأبيض
ينكش رقم التتك على منحدر الربوة
يقرأ في دستور الجرح المفتوح سطوراً:

هي ملكي وصباي وأعشابي
لا يدخلها غير اتلخلصاء
ولا يطأ الكثبان سوى العشاق المنذورين.
هي المدية في الوجع الحي
وصدع البيت الريفي
فليس يتاخمها إلا من كشف الصدر عن الوشم:
اللوتس ، وسياط الجلادين.

الحلكةُ شعّت بفتاهاتدعوه أن يرقص ويغوص إلى اللؤلؤة الفردةِ
ويشبه نوبته بالوردة،

ينخرط الجندي على الإيقاع المخبوء
أنا سأسمي العابر سيرةَ أجيالي
وأسمي السفح شجوني
مرات كنت قتيلا
لكني في ملكي وصباي وأعشابي
سأخالف في الغسق تراثي وفنوني
وأقيم الوردة في الزمن الفاصل بين حميمي وغريمي
لأواصل وشوشتي لزنادي:
كن لي حداً بين السلم وبين التسليم
وكن لي قنديلا بين العتمة والتعتيم
احفظ لي الفارق بين بلادي وبلادي
سأسميك القابلة المقبلة على أرحامي
وأسمي الوطن جنوني.

صاح النداه: سليمان
أجبت: أنا الشرقاوي على سبابته ترتهن الأزمانُ
تساءل: كيف تشخص في الصحراء التكليف؟
أجبت: بناء سياجٍ للسنبلةِ
اقترب قليلاً سأل:
وهل في الصحراء السنبلة؟
أجبت: بقلبي
صاح: وما عمل السنبلة على الكثبان؟
صيانة داري من عاري
سأل: فما الدار وما العار؟
الدار دمي والعار عدوي.
قال: فما صلتك بفضاء المنطقة، سليمانُ؟
فقلت: أنا النورس والسمانُ
سليمانُ
ومن أعداء سمائك وسمائي؟قلت: الشاري والبائع
غاصب نافذتي والراكعُ
خاطف فرحي: المتبوع وخاطف فرحي التابع
شاهد اوجاعي: الساكت والنّدمانُ
سليمانُ:
فما جذرك في الأرضِ؟
هو الجميز يخصبه الطينُ
وما عمرك؟
سنوات الواحات وحطّينُ
وما بلدك؟
أعرفها بالحد وحد البلد فلسطينُ.

النادهُ صار على رمش العينين،
وصاح: فمن أنت سليمان؟
أنا في صدر بنات الدلتا الرمانُ
فكيف تميز بين حميمي وغريمي؟
قلت: حميمي يدخلني من ضلعي بفراشته،
وغريمي يثقب كفّيّ وأبوابي
يسلب مني زينة عمري
ويزين لي أحلام خرابي
همس: فكيف تصنف طلقتك السيارةَ؟
كفارة كل المقهورينَ
وكيف تغني الأغنيةَ المختارةَ؟
فترنمت لأهلي:
سيكون الموت ربيبي وربابي.

ديسمبر / يناير 1986



















هاهنا المدينة التي تقول للزمان :
يا زمان صر لنا خنادقا ومترسة
صر لنا حديقة ومريولة ومدرسة
وهاهنا الزمان صار
معطرا بدم وردة الحصار .
يا وردة الحصار
لملمي البنادق المكرسة
لسكة نسمي حريقها:  انتصار
يا وردة الحصار.